أين يذهب الموتى؟ | نصوص

لوحة أرشيل جوركي، 1947

 

(1)

أربعُ أحياءَ

يخرجْنَ مِنْ ثلّاجةِ الموتى

ويتركْنَ واحدة

حفيدةٌ ملتاعةٌ وابنةٌ يتيمةٌ واثنتانِ كانتا عكّازتيْنِ للمسجّاةِ

في الداخلِ المتروك!

*

أربعُ أحياءَ

يَنْزِلْنَ للطابقِ السالبِ، أربعَ طوايا تحتَ الأرضِ

تخرجُ عليْهُنَّ روحٌ غادرَتْ مسكنَها عمّا قليلٍ،

 وتترُكُ جارورًا فارغًا في ثلّاجةٍ باردة،

 في الطابقِ السالبِ بعدَ الأربعة.

 

أربعُ أحياءَ يخرجْنَ مِنْ ثلّاجةِ الموتى

الريحُ تصفعُ وجوهَهُنَّ الكالحة،

لا نَعْيَ الآنَ... لا عزاءَ تبقّى

يخرُجْنَ ويترُكْنَ واحدة.

 

في الإرثِ المسجّى في المكتبةِ والوثائقيِّ

صرخَ سالمٌ إذْ جاءَهُ خبرُ أخيهِ:

أَكُلَيْبٌ كُلُّهُ ماتْ؟

وأنا أسجّي فقيدَتي

وقلبي هَلِعْ

أَكُلُّها تموتُ؟

ولا أصدّقُ ما أرى

وأصدّقُ ما قيلَ في الإرثِ القديم.

 

أربعُ أحياءَ يخرجْنَ مِنْ ثلّاجةِ الموتى

ويتركْنَ واحدة

 

(2)

خذي خواتمي كلَّها، يا بنتُ!

لَنْ أرجَّ الأساورَ،

وأبتي ليسَ هنا، ليسمعَ!

خذي خواتمي... خذيها،

والأمانةَ أَلْقيها عنّي، الآنَ، الساعةَ، اليومَ.

سراعًا، دونَ أسماءٍ يأتونَ،

سراعًا يُظْهِرونَ الكشفَ يمينًا أو يسارًا،

دونَ أيدٍ أو قلم.

خذي الخواتمَ، خذيها يا بنتُ!

«بلا حدودٍ» أرى الآنَ،

بلا قوافٍ أسمعُ،

لليمينِ اليمينِ أديريني،

والسلام.

 

(3)

يضعُ السؤالُ الكبيرُ «إلى أينَ يذهبُ الموتى؟» سكّينَهُ على نحرِكَ

ويحزُّ...

ستتوالى عليْكَ صورُ مَنْ أحببتَ تباعًا،

صورٌ تكادُ لا تتبيّنُها ولا تفطنُ لها.

يزورُكَ الأمواتُ، بوجوهٍ شاحبةٍ وقلوبٍ عاتبةٍ لأنَّكَ لمْ تزرْهُمْ منذُ فترةٍ

يتكلّمونَ كثيرًا ولا تتبيّنُ شيئًا ممّا قالوا... لكنَّها،

عيونُهُمْ لا تزالُ تحدّقُ بِكَ ولا تنساها.

تأتي أمّهاتٌ كُثُرٌ لمنامتِكَ ويُفْزِعْنَها بأسئلتِهِنَّ،

تأتي عاشقاتٌ هوينَ مِنْ برجِ الهوى، ودُفِنَّ بلا صلاةٍ ولا فاتحة.

يأتي الموتى هلعينَ،

ملقينَ عِتابَهُمْ وعيونَهُم بيضاءَ،

لأنَّكَ لمْ تَتْبَعْ صراخَهُمْ وهُمْ يلقونَ الترابَ عليْهِمْ،

ولمْ تصدّقْ أحلامَكَ حينَ كانوا يزورونَها مخبرينَكَ

 أنَّ يديْكَ ملطّخةٌ بالدماءِ، كَمَنْ شهدَ الجنازةَ ومَنْ شارَكَ بالدفنِ.

يأتي موتى آخرونَ،

هربوا مِنْ قبورِهِمْ... دقّوها وخرجوا

يتراكضونَ وأكفانُهُمُ البيضاءُ مسدلةٌ وراءَهُمْ

 وثمّةَ عظامٌ مدلّاةٌ منْها وأقدامُهُمْ مِنْ حديدٍ مقوّى

وصراخُهُمْ بلا صدى،

تلتفِتُ حولَكَ لترى إنْ كانَ أحدٌ يلاحقُهُمْ أو إنْ رآهُمْ أحدٌ مثلُكَ.

ستبحثُ فيهِمْ عَنْ جدّةٍ ما..

ترفعُ غطاءَ قبرِها الرخاميِّ وعلى مهلِها تخرجُ

 لتعيدَ ترتيبَ الشؤونِ الّتي تَرَكَتْها وراءَها ذاتَ آذار،

 وتهدهدَ القلوبَ المعلّقةَ الّتي خلّفَها غيابُها.

وبأناةِ المُحِبَّةِ تجلسُ أمامَ بيتِها وتحرسُهُ للأحفادِ الغائبين.

وتسألُ نفسَكَ أسئلةً فلسفيّةً لا تعني أحدًا سواكَ

 كَمَنْ غادرَ مَنْ؟ وما الحياةُ! وهلْ ما تعيشُهُ مجرّدُ حُلُمٍ،

يستيقظُ مِنْهُ الموتى قبيلَ موتِهِمْ بقليلٍ؛ فتتراءى لَهُمُ «الحياةُ»؟

 والسؤالُ الكبيرُ «أينَ يذهبُ الموتى؟» يضعُ سكّينَهُ على نحرِكَ،

ويحزُّ.

 

(4)

لمْ أفرغْ مِنْ عدِّ حبّاتِ السبحةِ الطويلةِ في يدِهِ

وصلتُ الأربعينَ، وسهوتُ.

لمْ يمرَّ أحدٌ مِنْ طريقي،

ولم ينتبِهْ ذو انتباهٍ على سبحةِ العقيقِ المتهاديةِ في يمينِهِ،

 ولمْ أتيقّنْ بعدُ إنْ كانتْ حبّاتُها عقيقًا كريمًا أو عيونَ ظباء!

وكنتُ كلّما نَدَهَ خيالُ المآتةِ

 أفزعُ وأبدأُ عمرًا جديدًا في الانتظار.

لمْ يجئْ جودو لَهُنَّ ولنْ!

وسيكملُ شبابُ الحيِّ رتقَ قلوبِهِمْ بنهودِ الحسانِ

وخيالِ البطولةِ، والوهمِ بالشعْرِ ووادي عبقرَ،

وعَرايا الكعبةِ اللائي كُنَّ يحبَلْنَ مِنَ القمر!

لَنْ تروي نائلةُ وعشيقُها إسافُ سيرةَ الماءِ المسالِ في جوفٍ حرام،

ولنْ يأتي حجيجُ مكّةَ على روايةِ الحجريْنِ والسعيِ بينَهُما.

سيكونُ اعتقادٌ، وظنٌّ، ووهمٌ، وإيمانٌ، وحكايا كُثُرٌ

 يُخْرِجْنَ الحيَّ منَ الميْتِ والميْتَ منَ الحيّ!

لكنَّ الحقيقةَ واحدةٌ... هيَ غيابُها، كما سهوُ المسبحةِ بينَ يديْهِ.

 

(5)

حربٌ في أرمينيا... وأخرى في قلبِها، تندلعُ اليومَ.

لا أخبارَ عاجلةٌ على الشاشةِ الكئيبةِ تعلنُ أو تلعنَ تضامنها معَ جمرِها ورمادِها،

ولا المسيحُ ها هنا يمسحُ قلبَها فتشفى، هنيهةً... إنّما، أطفأَ ضوءَهُ في وجهِها وسدَّ الباب.

هيَ الذبيحةُ الليلةَ يا دموعَ الأرمنيّة... وروحُها بيعَتْ بلا ثمنٍ، و

الحكايةُ تبثُّها في بئرٍ جفَّ ماؤُها... ويوسفُ فيها قَدْ هلَك!

 

(6)

مَنْ يعطيني أذنيْهِ لأهمسَ بأنَّ قلبِيَ فعلًا يوجعُني؟

مَنْ سيصدُقُني التأسّي إذْ أشكو أنَّ حلقِيَ حطبةٌ وريقيَ مرّ؟

مَنْ يلقي رأسي على كتفِهِ

ويهدهدُني حتّى أنامَ... لحظةً يا أمّي، لحظةً أنامُ؟

متعبةٌ أنا، كمنديلِ نائحة،

والضباعُ حولَ بيتي يا أَبَتِ.

 

(7)

كنتُ يومَها قدِ ابتلعْتُ الكلامَ كلَّهُ، حتّى آخرِ حرفٍ في لوحةِ الهاتف.

 لمْ يبقَ لديَّ ما أقولُ سوى فكّةِ كلامٍ استعرتُهُ مِنْ شفتيْ نجوى أو كوثر،

أو أسمائِها كلِّها، وهي تعبرُ شوارعَ المنارةِ والساعةِ والجامعِ الكبير،

وتشتمُ بمرارةٍ قلبَها، والمارّةَ والجالسينَ المتأمّلينَ إلهامَ إبليسَ في صدورِ الفتياتِ البريئات،

 وأسفلَ ظهورهِنَّ.

مددْتُ، يومَها نحوَ صدري يدي،

تناولْتُ قلبيَ وأخفيتُهُ في الجيبِ،

نفخْتُ فيهِ تمائمي... وأغلقْتُ فمَهُ.

ومثل بني هلالٍ، أجدادي، في تغريبتِهِمْ، و

قلوبُهُمْ تجري خلفَهُمْ:

أدقُّ بالأرضِ عصايَ، وأمضي.

 

(8)

ستؤجّلُ الدموعَ، وستؤجّلُ الحزنَ

وستغرقُ في صلواتِ المهابةِ الفرعونيّةِ للربّةِ إيزيسَ،

وستهوي وتذوي لأنَّكَ لا تستطيعُ الغناءَ للموتِ مثلَها.

ثمانيةُ أشهرٍ مرَّتْ على الحياةِ المخطوفةِ أمامَ عينيْكَ

على مهابةِ الموتِ، والملائكةِ الّذينَ لا ترى أيًّا منْهُمْ،

وعلى الشتائمِ الّتي وجّهتَها للربِّ شخصيًّا، وفقيدُكَ يتلوّى.

ثمانيةُ أشهرٍ مرّتْ، ولا زِلْتَ واقفًا، هناكَ، تلقّنُ كلماتِ الموتِ للموتى،

 وتشتمُ ربَّهُمْ.

 


 

قسم الحاجّ

 

 

 

محاضرة في جامعة بير زيت، وباحثة مرشّحة لنيل الدكتوراه من الجامعة نفسها. تتركّز اهتماماتها البحثيّة في حقل الدراسات الثقافيّة، وتحديدًا في السياقات الاستعماريّة وما بعد الاستعماريّة.